شهادة إبداعية

سماح العيسى

لأن الكتابة انتصارٌ للذاكرة…

هكذا يأتي الجواب عادةً عندما يكون السؤال لماذا أكتب؟

أنا سماح

ربما قبل حقبة من الزمن كان اسمي يبدو جليًّا في وجهي، لكن لا شيء يدوم.

ابنة زهير.. ذلك الرجل الذي هرم قبل أوانه فرحل على عجل والذي أورثني الغربة وأورثني حرفة تحنيط الوجع على هيئة قصائد وحكايا…

الحكايا التي نكتبها لنقنع الآخرين أننا قلنا كل ما يسكننا، وأننا وضعنا يدنا على موضع الألم، وكنا واضحين وصادقين وحملنا أسفارنا بفهم الأنبياء وبلّغناها بأمانة المرسَلين.

لكننا بكل بساطة لم نقل إلا ما تيسّر من الحقيقة، ولم نبح إلا بالجزء المكشوف من جراحنا بينما تحت غطاء الكتمان ألف جرح لم يُمَس ولم يُحكى.

أقول إن الكتابة سمة في تشكيل الروح.. وأكاد أؤمن أننا في أرحام أمهاتنا كنا ندوّن مذكراتنا، ونتدرب على رصد تفاصيل يومنا.

إذ من يستطيع أن يواجه وحدة تسعة شهور بصمت مُطلق؟!

كتبنا ودوّنا، وكنا على استعداد لكشف خبايا حياتنا ونحن أجنة متكورين لولا أن فاجأنا ضوء الحياة وصفعتنا يد مجهولة _فور ميلادنا_ لتجبرنا على البكاء، فصرخنا وبكينا.. وذرفنا كل ما قد ادخرناه من حكايا في نوبات بكاء متتالية كانوا دائمًا يحاولون أن يضعوا لها نهاية ما، ولم يكن أحد يسمعنا.

سألت مرة صديقة تؤمن بتناسخ الأرواح كحقيقة مؤكدة، وكانت قد ساقت لي من قبل الأدلة والبراهين والحكايا التي شهدتها بأم عينها لأشخاص ينتمون لذات المعتقد… يتذكرون حياتهم السابقة في الجيل السابق قبل ميتتهم الأولى، وعندما سألتها “لماذا لم يتذكر أحد من عائلتي أو أهل قريتي.. تفصيلًا صغيرًا عن حياته السابقة؟”

أجابتني ببساطة لأنهم لم يجدوا من يسمعهم، عندما حاولوا أن يبوحوا.. لأنكم لم تؤمنوا بهم ولم تهبوهم الفرصة ليحكوا.

 

بغض النظر عن عدم إيماني بالتناسخ.. إلا أنني أؤمن أننا كلنا نولد ونحن نحمل مَلَكة الكتابة (بمفهوم البوح، لا رسم الحرف). نحمل بذورها والقدرة عليها كما نملك القدرة على الضحك والبكاء، لكن الكثير منا ارتدى الصمت لأنه لم يجد من يسمعه أو يؤمن به.. هكذا ضمرت هذه القدرة وتوارت خلف الكثير من اللغو والكثير من الفراغ الذي لا يشبهنا.

….

أما أنا فقد كدت أصمت.. لكن ضربة أصابت القلب أنطقتني.

كما نعرف إن الضربات التي لا تقتلك “تقويك”..

وأنا أقول إن الضربات التي لا تقتلك تُنطقك…

هكذا كان الحال كحال أغلبنا من أبناء أمة الضاد، لكن الفواجع كانت مكثفة وحقيقية بالنسبة لوطني.

جميعنا نعرف أننا نملك تاريخًا زاخرًا بالفواجع والمآسي والهزائم والحسرات…

لكن ما يُحكى ليس كما يُعاش.

فرق عظيم بين مأساة ورثتها عن جدي كحكاية حتى وإن كنت أعيش تبعات قهرها حتى اليوم، وبين مأساة أنا وعائلتي ووطني أبطالها الفعليون.

أن نكون نحن من تقع على عاتقه مسؤولية الحكاية…

من عليه أن يستعيد قدرته على رصد التفاصيل وتدوينها.. من يقف بالمرصاد لأي لحظة سهو قد تعتري ذاكرة التاريخ…

هكذا جاءت رواية الحرملك.. روايتي الأولى ومن بعدها كانت الهجير والتي إنما كتبت لأجل كل من نخاف عليهم من النسيان وكل الذين ارتكبوا السهو؛ لأن الكتابة انتصار للذاكرة.

….

في الهجير

جنة رياح

هذه المرة سأقول الحقيقة كل الحقيقة ولا شيء إلا الحقيقة.

لم تكن الكتابة يومًا بالنسبة لي مهمة شاقة كما كانت مع الهجير.

فالأمر هنا يتعلق بحرب مشتعلة في رأسي بينما أنا أتهيء للذهاب إلى العمل.. حرب لا تخمد في رأسي بينما أنا أكتب الخطة الأسبوعية وأصحح أعمال الطلاب الكتابية… بينما أُسهب في التغذية الراجعة للطالبات فأتلعثم عند كلمة بعينها لأنها تذكرني بإحدى الشخصيات..

حرب لا تخمد في رأسي بينما أقود السيارة آفلة.. بينما أعدُّ الغداء على عجل.. بينما أشرح الدرس لصغيرتي التي أرهقها التعلّم عن بعد.. بينما أنا أضحك على نكات يمان أو أجيب عن أسئلة حمادة (أولادي)…

حرب لا تهدأ…

حرب استمرت طيلة ثلاث سنوات كانت في كل مرة تقودني إلى طريق جديد، لكن هنا أقول أنه وإن اختلفت الطرق إلا أن وجهتي كان محددة وثابتة… أن أقول الحقيقة كل الحقيقة.. أن أصرّح بكل ما لم ينطقه أحد على مدى مئة عام من تاريخ حوران.

….

في بداية الثورة أرسل يسألني صديق من مصر الشقيقة عن عمل أدبي سوري يمكن أن يمنحه رؤية كاملة لتفاصيل حياة السوريين قبل الثورة…

كيف كنا.. ولمَ خرجنا.. وما الذي منحنا الجرأة لنقول لا…

بحكم ظروف كثيرة لم يكن الواقع السوري قبل الحرب معروفًا لدى كثيرين..

هذا السؤال هو ما دفعني لكتابة الحرملك

ومن ثم كتابة الهجير.

أقسمت قبل البدء.. أن أقول الحقيقة.. ما تيسّر من الحقيقة.. ولا شيء إلا الحقيقة.

هكذا بدءًا من عام 1917 وتحديدًا على الطريق بين خربة غزالة والجولان.. بدأت الحكاية وعمّ الصمت المؤقت لا النهاية في مدينة خليين_ هولندا عام 2020

الحكاية التي قد تبدو للبعض حكاية غزالة الخاصة إلا أنها حكاية حوران وسوريا وحكايتنا كلنا…

في النهاية أريد أن أعترف لكم

أنا لم أصل إلى وجهتي بعد فالوصول يورث الثبات والثبات علة الزوال..

أنا ما زلت أسعى للوصول

لكن المهم في الأمر أنني أعرف وجهتي كما أخبرتكم أعرفها جيدًا لذا فإن التعب لن ينال مني بإذن العظيم…

وهنا أستعير صوت خطار بطل الهجير إذ قال:

“الله يعاقب الإنسان الذي لا يعرف وجهته، يعاقبه بالتعب، وأنا أعرف وجهتي أعرفها جيدًا.”