انحياز الوضع الراهن: إلى أيّ حدٍ يؤثر على سلوكك؟

ترجمة: سماح العيسى

 

 

يشير مصطلح “انحياز الوضع الراهن” إلى ظاهرة تفضيل الفرد للبقاء في البيئة والحالة التي هو عليها. ويظهر أثر هذا الانحياز في أوضح حالاته عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرار: عندما نتخذ قرارًا ما، فإننا نفضل الخيار الذي نألفه أكثر من الخيارات التي لا نعرفها كما يجب، والتي قد تكون على الأغلب أكثر نفعًا.

 

يشمل انحياز الوضع الراهن جميع القرارات التي نتخذها، بما في ذلك الخيارات السخيفة (مثل نوع المشروب الغازي الذي نشتريه) حتى الخيارات الأكثر أهمية (كاختيار خطة التأمين الصحي) .

Pixabay
Pixabay

أول الأبحاث:

إنّ أول من استخدم مصطلح “انحياز الوضع الراهن” هما الباحثان ويليام سامويلسون و ريتشارد زيكهاوزر عامَ 1988، في مقال بعنوان: “انحياز الوضع الراهن في اتخاذ القرارات”. وقد وصف الباحثان في هذا المقال العديد من تجارب اتخاذ القرار التي تشير إلى وجود هذا الانحياز.

في إحدى التجارب تم وضع المشاركين في سيناريو افتراضي: ورثوا مبلغًا كبيرًا من المال. ثم طُلب منهم أن يقرروا كيف سيستثمرون هذا المبلغ، وذلك من خلال الاختيار من ضمن مجموعة من الخيارات المحددة.

وبينما تم وضع بعض المشاركين في سيناريو محايد، فقد تم وضع البقية في سيناريو “انحياز الوضع الراهن”.

 

في النسخة المحايدة: تم إخبار المشاركين فقط بأنهم قد ورثوا مبلغًا من المال، وأن عليهم انتقاء طريقة لاستثمار المال من ضمن الخيارات المحددة. في هذه الحالة، كانت كل الخيارات متاحة بشكل متساوٍ، دون تفاضل بينها فإبقاء الأمور على حالها لم يكن أحد العوامل، وذلك لعدم وجود تجربة سابقة للقياس على أساسها.

 

أما في حالة “الوضع الراهن”، فقد تم إخبار المشاركين أنهم قد ورثوا مبلغًا من المال الذي يتم استثماره بالفعل بطريقة معينة، ثم طُلِب منهم أن ينتقوا من ضمن لائحة الخيارات طريقة استثمار، وكانت إحدى هذه الطرق هو الإبقاء على السندات التجارية لطريقة الاستثمار الحالية (وبالتالي أخذ موقف “الوضع الراهن”). بينما كانت جميع الخيارات الأخرى على اللائحة تمثل بدائلًا للوضع الراهن.

توصَل الباحثان في نهاية التجربة إلى أنه في الحالة التي كانت تمثِّل سيناريو “الوضع الراهن”، كان المشاركون يعمدون لاختيار بقاء الحال على ماهو عليه على أي خيار آخر. ولقد كان هذا الخيار هو المُفضّل خلال عدد مختلف من السيناريوهات المُفترضة. بالإضافة إلى أنه كلما زادت الخيارات المُقدّمة للمشتركين، كان تشبثهم بالوضع الراهن أقوى.

توضيحات لانحياز الوضع الراهن:

تم طرح العديد من المبادئ في محاولة لتوضيح البعد النفسي ل”انحياز الوضع الراهن”، منها المغالطات المنطقية، والإلتزامات السيكولوجية. وفيما يلي سأدرج بعض التوضيحات الأكثر شيوعًا.

ومن المهم أن نعرف أن كل هذه الشروحات تعتقد بوجود أسباب غير منطقية لتفضيل الوضع الراهن.

  • الهروب من الخسارة:

أظهرت الدراسات أنه عندما يقوم الأفراد بالاختيار، فإنهم يضعون احتمالية الخسارة في عين الاعتبار أكثر مما يتوقعون الربح. لذلك عندما يفكرون بقائمة الخيارات، فإنهم يركزون على ما يمكن خسارته في حالة تغيير الوضع الراهن، أكثر مما قد يكسبونه بتجربة ما هو جديد.

  • التكاليف الثابتة:

تشير التكاليف الثابتة إلى أن الأفراد غالبًا يستمرون في استثمار المصادر (الوقت، المال، أو الجهد) في مجال معين، وذلك ببساطة لأنهم قد استثمروا فيه بالفعل من قبل، حتى وإن أثبت هذا المجال عدم فائدته.

مغالطة التكاليف الثابتة تؤدي إلى الاستمرار في مضمار عمل معين، حتى وإن أخفق.

تُعزى مغالطة التكاليف الثابتة إلى انحياز الوضع الراهن، وذلك أنه كلما استثمر الفرد في مجال معين لمدة أطول، استمر في الاستثمار فيه ذاته.

  • التنافر المنطقي:

عند مواجهة أفكار متغيرة، فإن المرء يمر بتجربة تنافر منطقي، وهو شعور مزعج يتمنى الناس أن يقلصوه. في بعض الأحيان يتحاشى الناس الأفكار التي تشعرهم بعدم الارتياح في سبيل استعادة الانسجام المنطقي.

عند اتخاذ القرارات فإن الأفراد يعمدون لرؤية احتمال ما على أنه الأكثر قيمة بمجرد اختيارهم له. حتى أن أي اعتبار للخيارات المتاحة كبدائل عن الوضع الراهن ستسبب لهم تنافرًا منطقيًّا، ذلك أنها تجعل خيارين محتملين في مواجهة مع بعضهما.

كنتيجة لذلك، فإن الأفراد قد يتشبثون بالوضع الراهن في سبيل تقليص هذا التنافر.

 

  • تأثير التعرض المجرد:

يؤكد تأثير التعرض المجرد أن الناس يفضلون الشيء الذي قد جربوه أو تعرضوا له من قبل. وكما يمكننا أن نخمن من خلال التعريف فإن “الوضع الراهن” هو الأمر الذي قد تعرضنا له أكثر من تعرضنا لأي وضع آخر. ووفق تأثير التعرض المجرد، فإن مجرد التعرض للأمر بحد ذاته، يخلق تفضيلًا للوضع الراهن.

 

  • المنطق واللا منطق:

قد يكون انحياز الوضع الراهن أحيانًا جزءًا من الخيار المنطقي. على سبيل المثال، قد يختار شخص ما الإبقاء على وضعه الحالي بسبب تكاليف الانتقال المحتملة والتي قد يتكبدها في حالة التغيير. من المنطقي طبعًا التمسك بالوضع الراهن عندما تكون تكاليف التغيير أكبر من المكاسب التي قد يحققها.

بينما يعد هذا الانحياز غير منطقي في حالة تجاهل الشخص الخيارات التي من شأنها تحسين وضعه، وذلك لأنه بكل بساطة يرغب بالحفاظ على وضعه الحالي.

Unsplash
Unsplash

أمثلة تطبيقية ل”انحياز الوضع الراهن”:

يعد انحياز الوضع الراهن سلوكًا إنسانيًّا منتشرًا. في مقال عام 1988 لِسامويلسون وزيكهاوزر، قد قدما عددًا من الأمثلة الواقعية تعكس الأثر واسع النطاق لهذا الانحياز.

1. أجبر مشروع من مشاريع قطاع التعدين السكان في مدينة في غرب ألمانيا على الانتقال إلى منطقة قريبة مشابهة. وقد تم تقديم العديد من الخيارات لمخطط المدينة الجديدة. وقع اختيار المواطنين على المخطط الأشبه بمدينتهم القديمة، على الرغم من أن التخطيط كان مربكًا وغير مناسب.

 

2. عند تقديم عدة خيارات من السندويش للغداء، فإن الأفراد يختارون غالبًا السندويش الذي جربوه من قبل. تسمى هذه الظاهرة بِ”تجنب الندم”: في محالة تجنب التجربة التي قد تسبب ندمًا محتملًا (اختيار سندويش جديد وعدم استساغته)، بالتالي يقرر الأفراد خيار التمسك بالوضع الراهن (السندويش الذي اعتادوه وعرفوه بالفعل).

 

3. عام 1985 أزاحت شركة كوكا كولا الستار عن “الكولا الجديدة” ،التويلفة الجديدة من نكهة الكولا الأصلية. وخلال اختبارات التذوق الأعمى فضّل الزبائن نكهة الكوكا كولا الجديدة على النكهة الكلاسيكية. لكن حينما أتيحت الفرصة للزبائن لاختيار الكولا التي سيشترونها، وقع اختيارهم على الكولا الكلاسيكية. وفي عام 1992 تم إيقاف إنتاج الكولا الجديدة نهائيًّا.

 

4. في الانتخابات السياسية، فإن فرصة المرشحين الحاليين في الفوز أكبر من فرصة المرشحين الجدد الذين يخوضون التحدي. كلما زاد عدد المرشحين في الانتخابات، زادت فرصة فوز أصحاب المناصب الحاليين.

 

5. عندما طرحت الشركة خطط تأمين جديدة إلى قائمة اختيارات التأمين، فإن عدد الموظفين القدماء الذين اختاروا الخطة القديمة أكبر من عدد الموظفين الجدد الذين اختاروها. إذ إن الموظفين الجدد يعمدون إلى اختيار الخطط الجديدة.

 

6. تم منح المشاركين في خطة التقاعد الخيار لتغيير توزيع استثماراتهم كل عام دون أية تكاليف إضافية. ومع ذلك، ورغم اختلاف العائد في الخيارات المختلفة، فإن نسبة 2.5% فقط من المشاركين قاموا بتغيير التوزيع.

وعند سؤال البقية عن عدم تغييرهم لخطة التوزيع، لم يكن لديهم أي تبرير لتفضيلهم “الوضع الراهن”.

رابط المقال الأصلي: اضغط هنا.