الأطفال مرآة الأمهات

العلاقة بين الصحة النفسية للأم وشخصية الطفل

سماح زهير العيسى

 

الأم بوابة العبور نحو الحياة ومرادفاتها في هذا الكون. إن أول علاقة “اجتماعية – عاطفية” يقيمها الإنسان على هذا الكوكب تتشكَّل عبر الأم. العلاقة التي تقوم في جوهرها على الاحتياج والاحتضان، مع تبادل تدريجي في الأدوار.

الاحتياج بوصفه نتاج الضعف، والذي يبدأ باحتياج الأم لوجود الطفل، لتجسيد مفهوم الأمومة كحقيقة وواقع، ومن ثمّ احتياج الطفل الذي يبدأ منذ طوره الأول جنينًا إلى طور ما بعد الولادة، وما قبل البلوغ.

والاحتضان.. الاحتضان الجسدي والنفسي والاجتماعي والوجداني.

الاحتضان بوصفه فعلٌ فطريٌّ تمارسه الأم منذ أول وهلة لتكوّن الجنين، والذي يستمر في كل المراحل، وغالبًا ما يكون علاقة تبادلية، وإن لم يبدُ ذلك واضحًا للعَيان في أغلب الأحيان.

إن علاقة حميميّة كعلاقة الأم والطفل لا بد أن تؤدي إلى تأثير متبادل، وإن كان الطرف الأقوى في هذه العلاقة “الأم” هي دائمًا الشخص الأكثر تأثيرًا. حتى أنه كثيرًا ما يمكننا أن ننظر إلى الطفل فنبصر فيه صورةَ أمِّه، وانعكاسها، والأمر ليس مجازًا، إنما حقيقة وواقع، فالطفل انعكاسٌ حقيقيٌّ لصحة أمِّه الجسدية –الأمر الذي يدركه الجميع في الغالب- والنفسية –الأمر الذي كثيرًا ما يغيب عن أذهاننا-.

 

  

مهارات الطفل الأساسية وارتباطها بعلاقته بوالديه:

“إدراك الفرد وذاكرته وذكاؤه وخياله وتصوراته لا يمكن أن تكون فردية خالصة، بل لا بد وأن تكون متأثرة بعناصر مستمدة من تصورات اجتماعية” (رشوان، 2009)

البيئة الحاضنة تعدُّ أحد أهم عوامل تنمية المهارات والإبداع، لكن عندما يتعلق الأمر بالأطفال، فإنه يتعدى كونه بيئة حاضنة للمواهب والإبداعات، الأمر هنا يكاد يكون اختصارًا لكونٍ بأكمله تحديدًا إذا ما تحدثنا عن الطفل الرضيع أو الدارج. المهارات الأساسية البسيطة، والتي قد نحسب أن الطفل قادرٌ على اكتسابها بشكل ذاتي، إنما يكتسبها من خلال المحاكاة والتدريب والاتصال المباشر بالوالدين تحديدًا.

في دراسة أجراها العالم الأمريكي سبيتز على مجموعة من الأطفال الذين انفصلوا عن آبائهم كانت النتائج واضحة ومثيرة، فيما أطلق عليه سبيتز لاحقًا “داء المصحّات”. فقد اتسم الأطفال المُبعدين عن أمهاتهم بتأخر واضح بالنمو، وقد عزا تأخر النمو هذا إلى غياب التحريضات، ليس فقط بسبب غياب الأم، بل كذلك لنقص الاتصالات الاجتماعية مع أولاد آخرين أو بالغين آخرين. وكان من الملاحظ عند هؤلاء الأطفال التأخر في الذكاء، وعدم قدرتهم على المشي أو الكلام أو الأكل لوحدهم. (سارتون، 1987)

كذلك الأمر في الحالة المعروفة بحالة الطفلة آنا، وهي طفلة غير شرعية نشأت منذ ميلادها في غرفة واحدة، لم تغادرها، كما أنها لم تتلقَ من أمها أية عناية تُذكر لا حليب الأم، ولا الحنان، ولا حتى العناية الشخصية والنظافة والحمام. كل ما نالته الطفلة منذ كانت رضيعة اللبن، والغذاء للبقاء على قيد الحياة.

في سن السادسة كانت آنا فتاة تبدي القليل جدًّا من التفاعلات الطبيعية الإنسانية، كانت فاقدة للشعور والعاطفة. مستلقية على ظهرها دون أدنى حركة، أو حتى علامة اكتراث.

بعد أكثر من عامين على إخراج آنا من ذلك المكان، وتلقيها العلاج كانت تُبدي مستوى طفل بعمر السنتين عقليًّا واجتماعيًّا.

هذه الحالات والدراسات وغيرها الكثير يقودُنا إلى الاستنتاج بأن “الذكاء لا يُمنح للفرد منذ ميلاده، وإنما ينشأ ويتكون مع مختلف مراحل النمو.” (رشوان، 2009)

 

 

الحالة النفسية والوجدانية للوالدين وانعكاساتها على الطفل:

أكدت الدراسات الحديثة على وجود علاقة دالة موجبة بين اكتئاب الوالدين واكتئاب الأبناء، وتحديدًا أثر اكتئاب الأم على الصحة النفسية للأولاد. في حين أن نجاح الأولاد أو دافعيتهم للإنجاز لم تتأثر بهذا الاكتئاب بل كانت العلاقة الدالة بينهما سالبة، بمعنى أن قدرة الأولاد على النجاح الأكاديمي ودافعيتهم لتحقيق ذلك النجاح قد تزداد كلما ازداد الاكتئاب لدى الوالدين.

أرى أن الأمر قد يُعزى إلى محاولة ترميم الذات بعيدًا عن الاضطراب النفسي والاجتماعي الذي يعانيه الأطفال في علاقتهم مع آبائهم، لكن هذا الإنجاز لا يعني بالضرورة استثمار صحيح للذكاء أو تنمية للمواهب، فالحديث هنا عن النجاح الأكاديمي للأطفال، لا الإبداع والابتكار لديهم.

إن الاستقرار النفسي عند الأم من شأنه أن يكون أول ركنٍ لبناء شخصية الطفل بصورة سليمة وصحية.

كما أنَّ العلاقة الإيجابية بين الزوجين تؤثر بشكل مباشر على بناء علاقة إيجابية بين الأم وطفلها، ذلك أنّ الانسجام الحاصل بين الزوجين من شأنه أن يخلق اندماجًا طبيعيًّا، لا يشوبه حرمان أو تعلق غير صحيّ، بين الطفل ووالديه، كما أنه من شأنه أن يجعل توجه الأم لرعاية أطفالها توجهًا إيجابيًّا. (سالم)

والأمر ينقلب إلى النقيض تمامًا عندما تختلف الظروف، وتسوء العلاقة. كما أن إهمال الحالة النفسية للأم قد يفاقم الأمور وينحدر بها نحوالأسوأ والأخطر.. لذا يتوجّب علينا أن ندق ناقوس الخطر، ونصرِّح:

أمٌّ مكتئبةٌ.. طفلٌ في خطر!

في العديد من الحالات يتم التعامل مع اكتئاب الأم على أنه “موضة” رائجة تنساق خلفها النساء، وهذا تحديدًا أحد أهم الأسباب التي تؤدي إلى تدهورٍ نفسيٍّ حقيقي إذا لم تلقَ الأم العلاج والرعاية المناسبين.

تشير الدراسات الحديثة إلى أن خمسة من أصل كل عشر أمهات يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة قصير الأمد، بينما نسبة 10% إلى 15% من الأمهات قد يتحوّل اكتئاب ما بعد الولادة لديهن إلى اكتئاب حاد يستمر لفترات أطول، وقد يتطوّر أحيانًا ليتحوّل إلى ذُهان ما بعد الولادة، والذي يشكل خطرًا محقَّقًا على حياة الأم والطفل، وذلك بنسبة 9% من الحالات.

 

الطفل ما بين الكفاءة الاجتماعيّة والأميّة الوجدانيّة:

“من تجليات العلاقة الإيجابية المشبعة مع الأم أن يكون الطفل مهيئًا ليكون لديه “الكفاءة الاجتماعية”.” (سالم)

والكفاءة الاجتماعية هي أساس لمزايا عظيمة ومهمة في شخصية الطفل، من أهمها:

  1. أن يكون الطفل قادرًا على اتخاذ السلوك المناسب لكل موقف يواجهه، وهذا من أساسيات النجاح الاجتماعي.
  2. أن تكون دافعية الإنجاز لديه عالية.
  3. أن تتطور لدى الطفل القدرة على التكيُّف حتى مع المواقف الاستثنائية.

في حين أنّ الاختلال في العلاقة بين الطفل ووالديه، الأم تحديدًا، من شأنه أن ينشئ طفلًا يعاني من الأمية الوجدانية.

الأميّة الوجدانيّة:

يطلق مسمى الأميّة الوجدانيّة على الخلل في الآداء الوظيفي العاطفي لدى الفرد، أي أن يكون عاجزًا عن فهم مشاعره، وتحديدها، أو التعامل معها، والتعبير عنها. كذلك الأمر بالنسبة لتعامله مع مشاعر الآخرين، فيكون غير قادر على احتواء عواطف الغير، وتقبلها، أو حتى بذل أدنى مستوى من العاطفة نحو الآخرين بما في ذلك مشاعر التعاطف أو الشفقة.

مظاهر الأمية الوجدانية عديدة، وعلى رأسها ارتفاع معدل الجرائم بأنواعها، وزيادة معدلات تعاطي المخدرات، والتعود على استخدام المواد المؤثرة عقليًّا، وكذلك زيادة معدلات الفشل الدراسي…” (سالم)

وإنّ من أهم مسبّبات الأميّة الوجدانيّة لدى الطفل العلاقات الأسرية الموتورة، والاضطرابات النفسية لدى الوالدين، وما تلقيه من ظلال على علاقتهما بالطفل.

وكما أشرنا سابقًا إن أهم جزء في هذه العلاقة هو علاقة الأم بطفلها، ذلك أنها تُشكّل عاملًا أساسيًّا هامًا ومؤثرًا بشكل مباشر في تكوين شخصية الطفل.

“لو خبر الطفل مع أمه علاقة باردة لم يحصل منها على العاطفة والتقبُّل والتفهُّم، فإنّ علاقاته مع الآخرين فيما بعد سيشوبها التوتر والتوجّس…” (سالم)

هل يرتبط إبداع الطفل بعلاقته بوالديه؟

الإجابة نعم بكل تأكيد، وليست العلاقة بالوالدين هي المؤثر الوحيد، وإنما المحيط الأسري بشكل عام.

لا يمكننا حصر الإبداع بالأسر المستقرة والمعافاة نفسيًّا، لكن بإمكاننا القول استنادًا إلى الدراسات والأبحاث النفسية المستمرة بهذا الخصوص أن المهارات والقدرات العقلية المتقدمة لا تنمو بمعزل عن البيئة الحاضنة.

“يرى ليف فيجوتسكي عالم النفس الروسي أن كل القدرات العقلية لها أصول اجتماعية، وتظهر اللغة، ويظهر الفكر أولًا في التفاعلات المبكرة مع الوالدين” (حسين، 2005)

 

وقد أثبتت الدراسات والمقارنات بين الأطفال المبدعين وغير المبدعين، أن غير المبدعين نشأوا في الغالب في بيوت تعاني من ضغوط نفسية، واضطرابات اجتماعية، وصراعات بين الوالدين. أمّا الأطفال المبدعون فقد نشأوا – في معظم الحالات- في أسر منحتهم  الاستقرار النفسي، كما كانت الثقة سِمة أساسية في تلك الأُسر، الثقة بما يختاره الطفل، والثقة بشخصيته وقدرته على النجاح، وبذلك ينشأ واثقًا حرًّا بلا ضغوط أو قيود.

“فالمواهب تتكون بفعل الظروف البيئية التي تقوم بتوجيه الفرد إلى استثمار كل ما لديه من ذكاء” (رشوان، 2009) أي أنّ الذكاء وحده –غالبًا- لا ينتج الإبداع، بلا لا بد من توفر شروط أساسية تنمي تلك البذرة وتحتضنها، وتوجهها وترشدها. وإن الكثير من المواهب تندثر نتيجة انعدام الأمن النفسي الذي يحتاجه الطفل، والذي يؤدي إلى فقدان الثقة بالنفس، ويؤثر أيضًا -كما أشرنا سابقًا- على الذكاء الوجداني لدى الطفل، وذلك من شأنه أن يقود إلى انعدام الدافعية الذاتية لديه.

 

الأمُّ هي مفتاح اللُّغز.. والوالدان معًا يشكلان كلمة السّر لصحة الطفل النفسية، ولما سيكون عليه هذا الطفل بعد حين من الدهر، لملامح شخصيته التي ستتجلى بشكل أوضح فيما بعد.. لكماله ونقصه، لسعادته أو بؤسه، لتقبله للآخرين أو هروبه منهم.

باختصار كلُّ ما هو آت.. نكتبه نحن، دون أن نعي، بوصفنا آباء وأمهات.

 

Linkedin

Facebook

Instagram